فصل: مناسبة الآيتين لما قبلهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولابُدّ أنه قد حدث منهم شبه استقامة على منهج الله، أو على الأقل حدث من المسلمين انصراف عن المنهج وتنكُّب للطريق المستقيم، فانحلَّتْ الأمور الإيمانية في نفوس المسلمين، وانقسموا دُوَلًا، لكل منها جغرافيًا، ولكل منها نظام حاكم ينتسب إلى الإسلام، فانحلّتْ عنهم صِفَة عباد الله.
فبعد قوتهم واستقامتهم على منهج الله، وبعد أن استحقوا أن يكونوا عبادًا لله بحق تراجعت كِفتهم وتخلَّوْا عن منهج ربهم، وتحاكموا إلى قوانين وضعية، فسلَّط عليهم عدوهم ليؤدّبهم، فأصبحتْ الغلبة لليهود؛ لذلك يقول تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ..} [الإسراء: 6]. و{ثُمَّ} حرف عطف يفيد الترتيب مع التراخي، على خلاف الفاء مثلًا التي تفيد الترتيب مع التعقيب، ومن ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 21-22].
فلم يَقُل الحق سبحانه: فرددنا، بل {ثُمَّ رَدَدْنَا} ذلك لأن بين الكَرَّة الأولى التي كانت للمسلمين في عهد رسول الله، وبين هذه الكَرَّة التي كانت لليهود وقتًا طويلًا.
فلم يحدث بيننا وبينهم حروب لعدة قرون، منذ عصر الرسول إلى أن حدث وَعْد بلفور، الذي أعطى لهم الحق في قيام دولتهم في فلسطين، وكانت الكَرَّة لهم علينا في عام 1967، فناسب العطف بـ {ثم} التي تفيد التراخي.
والحق سبحانه يقول: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ..} [الإسراء: 6]
أي: جعلنا لبني إسرائيل الغَلَبَة والقوة والنصر على المسلمين وسلّطناهم عليهم؛ لأنهم تخلوْا عن منهج ربهم، وتنازلوا عن الشروط التي جعلتْهم عبادًا لله.
و{الكَرَّة} أي: الغلبة من الكَرِّ والفَرِّ الذي يقوم به الجندي في القتال، حيث يُقِدم مرة، ويتراجع أخرى.
وقوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]
وفعلًا أمدّهم الله بالمال حتى أصبحوا أصحاب رأس المال في العالم كله، وأمدّهم بالبنين الذين يُعلِّمونهم ويُثقّفونهم على أعلى المستويات، وفي كل المجالات.
ولكن هذا كله لا يعطيهم القدرة على أن تكون لهم كَرَّة على المسلمين، فهم في ذاتهم ضعفاء رغم ما في أيديهم من المال والبنين، ولابد لهم لكي تقوم لهم قائمة من مساندة أنصارهم وأتباعهم من الدول الأخرى، وهذا واضح لا يحتاج إلى بيان منذ الخطوات الأولى لقيام دولتهم ووطنهم القومي المزعوم في فلسطين، وهذا معنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]
فالنفير مَنْ يستنفره الإنسان لينصره، والمراد هنا الدول الكبرى التي ساندت اليهود وصادمت المسلمين.
ومازالت الكَرَّة لهم علينا، وسوف تظل إلى أنْ نعود كما كُنَّا، عبادًا لله مُسْتقيمين على منهجه، مُحكِّمين لكتابه، وهذا وَعْد سيتحقّق إنْ شاء الله، كما ذكرتْ الآية التالية: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا...}. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قوله: {وَقَضَيْنَآ} قَضَى يتعدَّى بنفسِه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا} [الأحزاب: 37] {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29]، وإنما تَعَدَّى هنا بـ {إلى} لتضمُّنه معنى: أَنْفَذْنَا وأَوْحَيْنا، أي: وأَنْفَذْنا إليهم بالقضاءِ المحتومِ. ومتعلِّقُ القضاءِ محذوفٌ، أي: بفسادِهم. وقوله: {لَتُفْسِدُنَّ} جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: والله لتفسِدُنَّ، وهذا القسمُ مؤكدٌ لمتعلَّق القضاء. ويجوز أن يكونَ {لَتُفْسِدُنَّ} جوابًا لقوله: {وقَضَيْنا} لأنه ضُمِّن معنى القسمِ، ومنه قولُهم: قضاء الله لأفعلنَّ فيُجْرُون القضاء والنَّذْرَ مُجْرى القسم فَيُتَلَقَّيان بما يُتَلَقَّى به القسمُ.
والعامَّةُ على توحيد {الكتاب} مُرادًا به الجنسُ. وابنُ جبير وأبو العالية: {في الكُتُب} على الجمع، جاؤوا به نَصًَّا في الجمع.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مضارعَ {أفسدَ} ومفعولُه محذوفٌ تقديره: لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ. ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ، أي: لتُوقِعُنَّ الفساد. وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد: {لَتُفْسَدُن} ببنائه للمفعولِ، أي: لَيُفْسِدَنَّكم غيرُكم: إمَّا من الإِضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التاء وضمِّ السين، أي: فَسَدْتُم بأنفسِكم.
قوله: {مَرَّتَيْنِ} منصوبٌ على المصدر، والعاملُ فيه {لتُفْسِدُنَّ} لأنَّ التقديرَ: مرتين من الفساد.
قوله: {عُلُوًَّا} العامَّةُ على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو. وقرأ زيد بن عليٍّ {عِلِيًَّا} بكسرِهما والياءُ، والأصلُ الواو، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولًا المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو: عَتا عُتُوًَّا، والإِعلالُ قليلٌ نحو {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} [مريم: 69] على أحدِ الوجهين كما سيأتي، وإنْ كان جمعًا فالكثيرُ الإِعلالُ. نحو: {جِثِيًَّا} وشَذَّ: بَهْوٌ وبُهُوُّ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ، وقاسه الفراء.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ}.
قوله تعالى: {وَعْد}: أي: مَوْْعُود، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ مفعول، وتركه الزمخشري على حالِه، لكن بحذف مضاف، أي: وَعْدُ عقابِ أُوْلاهما. وقيل: الوَعْدُ بمعنى الوعيد. وقيل: بمعنى المَوْعِد الذي يُراد به الوقتَ. فهذه أربعةُ أوجهٍ. والضميرُ عائدٌ على المرتين.
قوله: {عِبادًا} العامَّةُ على عِباد بزنة فِعال، وزيدُ بن علي والحسنُ {عبيدًا} على فَعِيْل، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك.
قوله: {فجاسُوا} عطفٌ على {بَعَثْنا}، أي: تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا. والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ، أي: فَتَّشَ ونقَّبَ، قاله أبو عبيد. وقال الفراء: قَتَلُوا قال حسان:
ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ ** فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ

وقال أبو زيد: الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طَلَبُ الطَّوْف بالليل. وقارب قطرب: جاسُوا نزلوا، وأنشد:
فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً ** وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا

وقيل: جاسُوا بمعنى داسوا، وأنشد:
إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ

وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. وقيل: طَلَبُ الشيءِ باستقصاء. ويقال: حاسُوا بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال، وقرئ: {فَجَوَّسُوا} بالجيم بزنة نُكِّسُوا.
قوله: {خلالَ} العامَّةُ على {خِلال} وهو محتملٌ لوجهين، أحدهما: أنه جمعُ خَلَل كجِبال في جَبَل، وجِمال في جَمَل. والثاني: أنه اسمٌٌ مفردٌ بمعنى وَسْط، ويدلُّ له قراءةُ الحسن: {خَلَلَ الدِّيار}. وقوله: {وكان وَعْدًا}، أي: وكان الجَوْسُ، أو وكان وَعْدُ أُوْلاهما، أو وكان وَعْدُ عقابِهم.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}.
قوله تعالى: {الكرة}: مفعولُ {رَدَدْنا} وهي في الأصلِ مصدرُ كَرَّ يَكُرُّ، أي: رَجَعَ، ثم يُعَبَّر بها عن الدَّوْلَةِ والقَهْر. قوله: {عليهم} يجوز تعلُّقه بـ {رَدَدْنا}، أو بنفس الكَرَّة، لأنه يُقال: كَرَّ عليه فتتعدَّى بعلى ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من {الكَرَّة}.
قوله: {نَفِيرًا} منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ، أحدها: أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل، أي: أكثر نافرًا، أي: مَنْ يَنْفِرُ معكم. الثاني: أنه جمع نَفْرٍ نحو: عَبْد وعَبيد، قاله الزجاج، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء. الثالث: أنه مصدرٌ، أي: أكثرُ خروجًا إلى الغَزْو. قال الشاعر:
فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ ** وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا

والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، فقدَّره بعضُهم: أكثر نفيرًا من أعدئكم، وقدَّره الزمخشري: أكثر نفيرًا مِمَّا كنتم. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في البعث:
وقد ورد في القرآن على ثمانية معانٍ:
الأَوّل: بمعنى الإِلهام: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ} أي أَلهم.
الثانى: بمعنى إِحياءِ الموتى في الدنيا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ}، {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ}، {وَكَذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} أي أَحييناهم.
الثالث: بمعنى الاستيقاظ من النوم: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ} أي من النَّوم، {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى}.
الرابع: بمعنى التسليط {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا}.
الخامس: بمعنى نَصْب القيّم والحاكم: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَآ}.
السّادس: بمعنى التعيين: {ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا} أي عيّن وبَيّن، {قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} أي قد عَيّن وبَيّن.
السابع: بمعنى الإِخراج من القبول للحشر: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ}.
الثامن: بمعنى الإِرسال: {فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ}، {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا} أي أَرسل.
وأَصل البعث إِثارة الشئِ وتوجيهه.
يقال: بعثتُه فانبعث.
ويختلف البعث بحسب اختلاف ما عُلِّق به.
فالبعث ضربان: بَشَرىّ؛ كبعث البعير، وبعث الإِنسان في حاجة، وإِلهى، وذلك ضربان: أَحدهما إِيجاد الأَعيان، والأَجناس، والأَنواع عن ليس وذلك يختص به البارئُ تعالى ولم يُقْدِر عليه أَحدًا من خَلْقه.
والثانى: إِحياءُ الموتى.
وقد خَصّ به بعض أَوليائه؛ كعيسى وغيره.
ومنه {فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ} نحو يوم المَحْشر.
وقوله: {وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} أي توجُّههم ومُضيّهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}.
القضاءُ ها هنا بمعنى الإعلام، والإشارة في تعريفهم بما سيكون في المُسْتَأنَفِ منهم وما يستقبلهم، ليزدادوا يقينًا إذا لقوا ما أُخْبِروا به، وليكونَ أبلغَ في لزوم الحُجَّةِ عليهم، وليحترزوا من مخالفة الأمر بجحدهم، وليعلموا أن ما سَبَقَ به القضاءُ فلا محالةَ يحصل وإنْ ظُنَّ التباعدُ عنه.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}. إن الله سبحانه يُعِدُّ أقوامًا لأحوالٍ مخصوصةٍ حتى إذا كان وقتُ إرادته فيهم كان هؤلاء موجودين.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}.
يدلُّ على أنه مُقَدِّرُ أعماله العباد، ومدبِّرُ أفعالِهم؛ فإِنَّ انتصارَهم على أعدائهم من جملة أكسابهم، وقد أخبر الحقُّ أنه هو الذي تولاَّه بقوله: {رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ}. اهـ.

.تفسير الآيات (7- 8):

قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}.

.مناسبة الآيتين لما قبلهما:

قال البقاعي:
فلما ثبت بكون ما توعد به سبحانه في أوقاته كما أخبر به بطشه وحلمه، فثبتت قدرته وعلمه، أشار إلى أن من سبب إذلاله لمن يريد به الخير المعصية، وسبب إعزازه الطاعة، فقال تعالى: {إن أحسنتم} أي بفعل الطاعة على حسب الأمر في الكتاب الداعي إلى العدل والإحسان {أحسنتم لأنفسكم} فإن ذلك يوجب كوني معكم فأكسبكم عزًا في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما {وإن أسأتم} أي بارتكاب المحرمات والإفساد {فلها} الإساءة، وذكرها باللام تنبيها على أنها أهل لزيادة النفرة لأن كل أحد يتطير من نسبتها إليه عبارة كانت، فإذا تطير مع العبارة المحبوبة فكيف يكون حاله مع غيرها.
ولما انتهزت فرصة الترغيب في الطاعة والترهيب من المعصية، عطف الوعيد الثاني بالفاء إشارة إلى أنه بعد نصر بني إسرائيل على أهل المرة الأولى، ولعلها أيضًا مؤذنة بقرب مدتها من مدة الإدالة فقال تعالى: {فإذا جاء} أي أتى إتيانًا هو كالملجأ إليه قسرًا على خلاف ما يريده الآتي إليه {وعد الآخرة} أي وقته، فاستأهلتم البلاء لما أفسدتم وأحدثتم من البلايا التي أعظمها قتل زكريا ويحيى عليهما السلام والعزم على قتل عيسى عليه السلام {ليسوءوا} أي بعثنا عليكم عبادًا لنا ليسوءوا {وجوهكم} أي يجعل آثار المساءة بادية فيها، وحذف متعلق اللام لدلالة الأول عليه {وليدخلوا المسجد} أي الأقصى الذي سقناكم إليه من مصر في تلك المدد الطوال وأعطيناكم بلاده بالتدريج، وجعلناه محل أمنكم وعزكم، ثم جعلناه محلًا لإكرام أشرف خلقنا بالإسراء به إليه وجمع أرواح النبيين كلهم فيه وصلاته بهم ثَّمَ، وهذا تعريض بالتهديد لقريش بأنهم إن لم يرجعوا أبدل أمنهم في الحرم خوفًا وعزهم ذلًا، فأدخل عليهم جنودًا لا قبل لهم بها، وقد فعل ذلك عام الفتح لكنه فعل إكرام لا إهانة ببركة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم دائمًا أبدًا {كما دخلوه} أي الأعداء {أول مرة} بالسيف، ويقهروا جميع جنودكم دفعة واحدة {وليتبروا} أي يهلكوا ويدمروا مع التقطيع والتفريق {ما علوا} أي عليه من ذلك، وقيل: ما مصدرية، أي مدة علوهم فيكون {يتبروا} قاصرًا فيعظم مدلوله، وأكد الفعل وحقق الوعد فقال: {تتبيرًا}.